تقف هناك في مكانكَ وحيداً، يرافقك فقط الانتظار كـظلِّك، تمرُّ الساعات كالأيام، ومن ثمَّ الدقائق كالأيام ومن ثمَّ الثواني كالأيام، ليتوقَّف هناك الوقت، حتى عقرب ثواني الساعة تراه ثابت في مكانه، كأنه مُثقَل بمصائب الكون جميعاً.
لاشيء يشبه الموت كالانتظار، فهو موتٌ بطيء أو لنقل هو موتٌ مؤجَّل، موتٌ غير مُعلَن ،لاشيء ينفع معه، هو المسيطر و السيد، هو مالِك روحك ،هو قاتلُك الخفيّ، سارِق الفرح من قلبك والنوم من عينيك ومغتصب الأمل في عقلك.
– 1 –
أتى شريكي في المسكن مسرعاً وعلى فمه سؤال العارف يردِّده باستمرار :
– ” خمِّن مَن هنا؟ خمِّن مَن هنا؟ ”
قلتُ له والنوم يتقاسمني مع اليقظة : ” مَن ؟.”
فأجاب مسرعاً: ” لن تصدّق لقد أتى “حسين” مع عشرين شخصاً مُفرَج ٍعنهم من سجن بعلبك العسكري.”
-قلتُ : ” ألم يكن قد غادرَنا منذ عامين ونصف إلى أهله في الشمال؟ ، أليس هذا ما أخبرنا به المختار.؟ “
– أجاب : ” ستلقاه وتعرف منه كل التفاصيل.”
– 2 –
مضى أكثر من شهرٍ لقدومه، لم نلتقي ولم أرَه رغم المسافة المكانية الضيقة التي تفصلنا، فظروف العمل تمنعنا الابتعاد عن مكان السكن فكيف العمل !؟.
وذات صباحٍ أتتْ مجموعة المُفرَج عنهم إلى وحدتنا يرافقهم مُرشد في كل مكان كأخيلَتهم يكفل عملية إعادة تدريبهم و زجِّهم في العمل بأسرع وقت .
خرجتُ مسرعاً أسأل عنه لأجده منزوياً هناك مع مجموعته وقد اختفت جميع ملامحه القاسية،أصبح كالطفل التائه يراقب المكان، هذا المكان الذي خَبِرَهُ لسنواتٍ يكتشفه الآن بعينيه من جديد بِـرَيبةٍ وحذر.
ندهتُ له من بعيد باسمه فبدأ بالبحث عن مصدر الصوت، هذا الصوت الذي ليس بغريب عنه وليس بالمعتاد أن يجدني بالقرب منه.
بادرَني بالسؤال ونظرة عدم التصديق لا تفارق مُحيَّاه:
” ماذا تفعل هنا؟ ، ألم تغادر إلى العاصمة؟ ،لماذا ماتزال في هذا الجحيم.؟
وهو يردد الاسئلة كانت أجسادنا تتجه لعناقٍ طويل معبَّأ بمعاناة هذه السنين وغرابة هذه الحياة التي أخذت من أعمارنا الكثير.
– 3 –
“ماذا كنت تفعل في سجنك؟ كيف كانت تمضي أيامك ؟ .”
– أجاب والموت وحده يسكن عيناه وروحه : “كنت أمارس لعبة الانتظار،…لقد هادنْتُ الموت هناك، أيقنتُ أني سأخرج من سجني الصغير إلى سجني الأكبر في هذا الوطن البائس، فانتظرت ذلك وخلال تلك المدة سُرِقَت مني روحي فخرجت أُشبِه اللا شيء… لقد غلبني الانتظار!.”
-” يزورك الانتظار في حياتك كثيراً وبِعنادٍ غريب حتى تَخاله هو حالك دائماً فتبقى عالقاً في اللا مكان واللا زمان، فقط أنت ورفيقك الانتظار، فكيف وأنت داخل أسوار السجن!.”
“لم تنفع معي كل أحلام اليقظة وذكريات الأيام الماضية، لم ينفع معي شيء هناك في ذلك الكابوس المُسمى سجن.”
– ما العمل إذاً ؟، كيف الهروب من وطن الأحلام المؤجَّلة، والوعود الكاذبة ؟، ما السبيل للحياة ؟ أين يكمن الفرح ؟.
– في داخلنا سرٌّ عظيم ،قوة تغيير جبَّارة، لكنها خامدة، مدفونة تحت ملايين الأوهام القاتلة، مسجونة بفعل الانتظار، بفعل وعود الغَيْر الكاذبة، بِوَهْم الأمل المحكومون به .
بعد أن ينهكك التعب بفعل الانتظار، ستكون على يقين إنْ نجحتْ…ودعني أشدد على كلمة _ إنْ نجحتْ _ لأنَّ قليلون من يحظَون بهذا الشرف… ستجد أنَّ تجاهل كل شيء، كل أمل، كل وعد كاذب، كل شخص وكل كلمة من غير ذاتك هو الحل، أنَّ العودة لداخلك ولقائمة الكتب التي تنتظر القراءة هي الحل.
إنَّ الابتعاد عن كل خبر أو تأثير سلبي هو الحل، إنَّ العمل هو الحل، والعمل هو أي شيء صغير من الممكن أنْ يجعلك تتجاهل الانتظار وأفضل عمل في مكان لا عمل فيه هو بناء النفس بالقراءة ..
هنا أيقنت أنَّ السجون في داخلنا، نحن من نزرع أنفسنا كالأشجار في أرضٍ من الجمر، نحن من نكبِّل أنفسنا بالانتظار، نحن من جعلنا الكون يقنعنا أننا لا نملك حرية الاختيار…